إنما يجوز أن تطلق على الله تعالى بعد الإذن الشرعي باعتبار النهايات لا باعتبار المبادئ. فحديث سلمان قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع إليه العبد يديه أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا» (١) إنما جاء على سبيل التمثيل لأنه مثل تركه تخييب العبد بترك من يترك رد المحتاج إليه حياء منه. ومعنى قوله (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) أي لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها. ويجوز أن تقع هذه العبارة في كلام الكفرة فقالوا : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت؟ فجاءت على سبيل المقابلة والطباق ، وهو فن بديع قال أبو تمام :
من مبلغ أفناء يعرب كلها |
|
أني بنيت الجار قبل المنزل |
فلولا بناء الدار لم يصح بناء الجار ، وقد استعير الحياء فيما لا يصح فيه :
إذا ما استحين الماء يعرض نفسه |
|
كر عن بسبت في إناء من الورد |
فيصف كثرة مياه الأمطار في طريقه ، وأنه أينما ذهب رأى الماء وكأنه يعرض نفسه على النوق فتستحيي فتكرع فيه مشافر كأنها السبت وهو الجلد المدبوغ بالقرظ ، وشبه الأرض وفيها الماء وحواليه الأزهار بإناء من الورد. وفيه لغتان : استحييت منه واستحييته وهما محتملتان هاهنا. وضرب المثل اعتماده وصنعه من ضرب اللبن وضرب الخاتم ، وفي الحديث : ضرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم خاتما من ذهب. و «ما» هذه إبهامية ، إذا اقترنت باسم نكرة زادته شياعا وعموما كقولك «أعطني كتابا ما» تريد أي كتاب كان ، أو صلة للتأكيد كالتي في قوله (فَبِما نَقْضِهِمْ) [النساء : ١٥٥] أي مثلا حقا أو البتة. وانتصب (بَعُوضَةً) بأنها عطف بيان و (مَثَلاً) وذلك أن ما يضرب به المثل قد يسمى مثلا كما يقال : حاتم مثل في الجود. أو مفعول لـ (يَضْرِبَ) و (مَثَلاً) حال عن النكرة مقدمة عليها ، أو انتصبا مفعولين فجرى «ضرب» مجرى «جعل». والبعوض في أصله صفة على فعول من البعض القطع فغلبت ، ومنه بعض الشيء لأنه قطعة منه وفي معناه البضع والعضب. ومن غرائب خلقه أنه مع صغره أعطي كل ما أعطي الفيل مع كبره ، ففيه إشارة إلى أن خلق أحدهما ليس أصعب من خلق الاخر ، وإشارة إلى حالة الإنسان وكمال استعداده كما قال صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم على
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب ٢٣. الترمذي في كتاب الدعوات باب ١٠٤. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب ١٣. أحمد في مسنده (٥ / ٤٣٨).