من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شيء آخر. والمراد بالسماء جهات العلو كأنه قيل : ثم استوى إلى فوق ، أو هذا كقولك لآخر «اعمل هذا الثوب» وإنما معه غزل. على أنها كانت دخانا ثم سواها سبع سموات. و «ثم» هاهنا إما للتراخي في الوقت والمراد أنه حين قصد إلى السماء لم يحدث فيما بين ذلك أي في تضاعيف القصد إليها خلقا آخر كما قلنا ، أو للتفاوت بين الخلقين. وفضل خلق السموات على خلق الأرض كقوله (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون : ١٤] وكقوله (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧] وتفسير هذه الآية في قوله (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ) [فصلت : ٩ ، ١٠] يعني تقدير الأرض في يومين ، وتقدير الأقوات في يومين ، كما يقول القائل : من الكوفة إلى المدينة عشرون يوما ، وإلى مكة ثلاثون يوما ، يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر. ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ، ومجموع ذلك ستة أيام كما قال (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [يونس : ٣] فإن قيل : أما يناقض هذا قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] قلنا : أجاب في الكشاف لا ، لأن جرم الأرض تقدم خلقه خلق السماء ، وأما دحوها فمتأخر. وعن الحسن : خلق الله الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ، ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله (كانَتا رَتْقاً) [الأنبياء : ٣٠] وهو الالتزاق ، وزيف بأن الأرض جسم عظيم يمتنع انفكاك خلقها عن التدحية. وأيضا قوله تعالى (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) يدل على أن خلق الأرض وخلق ما فيها مقدم على خلق السماء ، لأن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوّة. وقال بعض العلماء في دفع التناقض قوله (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٣٠] يقتضي تقدم خلق السماء على الأرض ، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض ، وزيف أيضا بأن قوله (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها. وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) [النازعات : ٢٧ ـ ٣٠] يقتضي أن يكون خلق السماء وتسويتها مقدما على تدحية الأرض ، بل على خلقها لأنهما متلازمان. وحينئذ يعود التناقض والمعتمد عند بعضهم في دفعه أن يقال «ثم» ليس للترتيب هاهنا ، وإنما هو على جهة تعديد النعم. مثاله : أن تقول لغيرك : ألست قد أعطيتك نعما عظيمة ، ثم رفعت قدرك ، ثم دفعت عنك الخصوم؟ ولعل بعض ما أخرته في الذكر مقدم في الوقوع.