الثالثة : عباداتهم أدوم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) وخير الأعمال أدومها ، مع أن أعمارهم أكثر. وعلى الآية سؤال. روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال : قلت لكعب : أرأيت قول الله عزوجل (لا يَفْتُرُونَ) [الأنبياء : ٢٠] ثم قال (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [فاطر : ١] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة ، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر ، فكذلك التسبيح لهم. وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام ، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام ، فاجتماعهما في آلة واحدة محال. وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر ، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي ، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال : فلان يواظب على الجماعات. يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها. ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثوابا من ثواب طاعاتهم.
الرابعة : أنهم أسبق السابقين في كل العبادات (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة : ١٠ ، ١١] «من سن حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» (١).
الخامسة : الملائكة رسل إلى الأنبياء (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) [النجم : ٥] (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) [الشعراء : ١٩٣] والرسول أفضل من الأمة قياسا على الشاهد. ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكما على المرسل إليهم ومتوليا لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم ، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبدا من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر.
السادسة : أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل : ٥٠] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع ، فوجب أن يكونوا أفضل (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضا.
السابعة : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول. ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل.
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب العلم حديث ١٥. النسائي في كتاب الزكاة باب ٦٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٥٧ ، ٣٥٩).