موسى عليهالسلام في البحر نظر إلى حافر دابة جبريل حين تقدّم في البحر ، فقبض قبضة من تراب حافر تلك الدابة. ثم إن السامري أخذ ما كان معه من الذهب وصوّر منه عجلا وألقى فيه ذلك التراب فخرج منه صوت كأنه الخوار (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] فاتخذه إلها لأنفسهم ، ولهذا وصفهم الله تعالى بالظلم في قوله (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) كما قال (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] وذلك أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، والمشرك وضع أخس الأشياء مكان أشرف الموجودات. والواو في (وَأَنْتُمْ) إما للحال وإما للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الظلم ، وقال أهل التحقيق : إن لكل قوم عجلا يعبدونه. قال صلىاللهعليهوسلم «تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة» (١) وقال «ما عبد إله أبغض إلى الله من الهوى» وفيه تقريع لليهود الذين جادلوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وعادوه كأنه قال : هؤلاء إنما يفتخرون بأسلافهم ، ثم إن أسلافهم كانوا في البلادة والجهالة والعناد إلى هذا الحد ، فكيف بهؤلاء الأخلاف؟ وتسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم مما كان يشاهد من مشركي العرب واليهود والنصارى من الخلاف والمشاقة (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥] وتحذير للعقلاء من الجهل والتقليد إلى هذه الغاية. ما أفظع شأن الجهلة المقلدة ، رضوا بأن يكون العجل إلها ، وما رضوا بأن يكون البشر نبيا وقد تمعل بعضهم لتصحيح واقعة عبدة العجل حيث استبعد وقوعها منهم مع أنهم شاهدوا تلك المعجزات الباهرة التي تكاد تكون قريبة من حد الإلجاء في الدلالة على الصانع وصدق النبي صلىاللهعليهوسلم. إن السامري ألقى إلى القوم أن موسى صلىاللهعليهوسلم إنما قدر على ما أتى به لأنه كان يتخذ طلسمات على قوى فلكية فقال للقوم : أنا أتخذ لكم طلسما مثل طلسمه ، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صوت عجيب ، وأطمعهم في صيرورتهم مثل موسى في إتيان الخوارق ، أو لعل القوم كانوا مجسمة وحلولية فجوزوا حلول الإله في الأجسام فوقعوا في تلك الشبهة الركيكة ، وهاهنا يظهر التفاوت بين أمة موسى وأمة محمد صلىاللهعليهوسلم فإنهم بعد مشاهدة الآيات العظام القريبة من الأفهام عبدوا الأصنام بل الأنعام ، وأمة محمد صلىاللهعليهوسلم مع أن معجزتهم القرآن الذي لا يعرف إعجازه إلا بالنظر الدقيق والبحث العميق لم يخالفوا نبيهم طرفة عين (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] لا يزيغون عن سواء السبيل ولا يميلون إلى معتقدات أهل الأباطيل (مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ) [الفتح : ٢٩].
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب ٧٠. ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٨.