(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٣] فإنه لا يجوز أن يقال هو زيد في البلد وإنما يقال هو العالم في البلد. قلنا : لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريا مجرى قولك «هو زيد الذي لا نظير له في البلد»؟ قالوا : لما كانت الإشارة ممتنعة في حقه تعالى ، كان اسم العلم له ممتنعا. وأيضا العلم للتمييز ولا مشاركة فلا حاجة إلى التمييز. قلنا : وضع العلم لتعيين الذات المعينة ولا حاجة فيه إلى الإشارة الحسية ، ولا يتوقف على حصول الشركة ، وكأن النزاع بين الفريقين لفظي ، لأن القائلين بالاشتقاق متفقون على أن الإله مشتق من أله بالفتح إلاهة أي عبد عبادة ، وأنه اسم جنس كالرجل والفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا ، وكذلك السنة على عام القحط والبيت على الكعبة والكتاب على كتاب سيبويه. وأما «الله» بحذف الهمزة فمختص بالمعبود الحق لم يطلق على غيره. وينبغي أن يكون المراد من كون الله تعالى معبودا كونه مستحقا ومستأهلا لأن يعبده كل من سواه كما يليق بحال العابد ، فإن اللائق بحال المعبود لا يقدر عليه أحد من المخلوقات. ولا يخفى أن الاستحقاق والاستئهال حاصل له أزلا وأبدا ، فيكون إلها أزلا وأبدا وإن كل من سواه عابد له بقدر استعداده وعلى حسب حاله ، حتى النبات والجماد والكافر والفاسق (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] والعبد الصالح من يعبد الله تعالى لذاته لا لغرض رغبة في الثواب ورهبة من العقاب ، حتى لو فرض حصول المرغوب أو فقد المرهوب لم يكن عابدا ، ومع ذلك فينبغي أن يقطع النظر عن عبادته أيضا.
وقيل : اشتقاقه من ألهت إلى فلان أي سكنت إليه. فالنفوس لا تسكن إلا إليه تعالى ، والعقول لا تقف إلا لديه ، لأن الكمال محبوب لذاته (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا) [الرعد : ٢٨ ـ ٢٩] وقيل : من الوله وهو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان والواقفون في ظلمات الجهالة وتيه الخذلان. وقيل : من لاه ارتفع لأنه تعالى ارتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات.
وقيل : من أله في الشيء إذا تحير فيه ، لأن العقل وقف بين إقدام على إثبات ذاته نظرا إلى وجود مصنوعاته ، وبين تكذيب لنفسه لتعاليه عن ضبط وهمه وحسه ، فلم يبق إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه الجلال والجمال ، وهاهنا العجز عن درك الإدراك إدراك.
وقيل : من لاه يلوه إذا احتجب ، لأنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. فإنا إنما