عاينوكم ولو كم الأدبار ، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام. ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما خالف ، رأى عبد الله بن أبيّ شق عليه ذلك وقال : أطاع الصبيان وعصاني ثم قال لأصحابه : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم إنما يظفر بعدوّكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا ، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما ذكر محمد صلىاللهعليهوسلم. فلما التقى الفريقان انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال : يا قوم علام نقتل أولادنا وأنفسنا. وكان جملة عسكر الإسلام ألفا ـ وقيل : تسعمائة وخمسين ـ فبقي نحو من سبعمائة. وكان المشركون ثلاثة آلاف فقوّاهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين. لكنهم لما رأوا انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر ، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم ولم يعلموا أن ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله ، ومتى تركهم الله مع عدوّهم لم يقوموا لهم. فنزع الله الرعب من قلوب المشركين ، فكرّوا على المسلمين وتفرق العسكر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما قال : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) وشج وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه صلىاللهعليهوسلم ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد. ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قتل. فأشرف أبو سفيان وقال : أفي القوم محمد؟ فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : لا تجيبوه. فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال : لا تجيبوه. قال : أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال : إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبت يا عدوّ الله. أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان مرتجزا : أعل هبل أعل هبل. فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : أجيبوه. فقالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل. قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم. فقال صلىاللهعليهوسلم : أجيبوه. قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أجيبوه. قالوا : ما نقول؟ قال : قولوا لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ولنرجع إلى التفسير بوّأته منزلا وبوّأت له منزلا أنزلته فيه. ومقاعد أي مواطن ومواقف ، وقد اتسع في «قعد» و «قام» حتى استعمل المقعد والمقام في المكان ومنه قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) [القمر : ٥٥] وقوله : (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) [النمل : ٣٩] أي من موضع حكمك. ويحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم لما أمرهم أن يثبتوا في تلك الأمكنة ولا ينتقلوا عنها شبهت بالمقاعد لذلك ، ويحتمل أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدوّ فيقوموا فلهذا سميت تلك المواضع مقاعد (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بضمائركم ونياتكم فإنا بينا أنه كان في القوم موافق ومنافق (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ) هما