ذلكم قول الشيطان. وقيل : يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وعلى هذا فالضمير في (فَلا تَخافُوهُمْ) للناس في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وقيل : التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله : (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر : ٣٦] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي ، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. الله حسبي.
التأويل : قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول : إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا ، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة ، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات ، ومطارف الأذكار ، وأسنة ألسنة الطاعنين ، وتجرع سموم مخالفات النفس ، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج (يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يس : ٢٦ ـ ٢٧] وكما ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» (١) فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلما. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسما لطيفا شبه طائر ، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطير خضرا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة ، وإما أن يكون عبارة عن النضرة (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل ، وأرجو أن أكون مصيبا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما.
(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث ١٢١. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٢٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب ١٩. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب ٤. الدارمي في كتاب الجهاد باب ١٨. أحمد في مسنده (٦ / ٣٨٦).