غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعا أن حكمي فيها كذا. أما قوله (لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) فظاهره يقتضي إشكالا وهو أن قليلا من الناس لا يحتاج في عدم اتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته ، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض. فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوها الأول : أن الاستثناء راجع إلى قوله : (أَذاعُوا بِهِ) كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله : (بَيَّتَ طائِفَةٌ) الثاني : أنه عائد إلى قوله : (لَعَلِمَهُ) يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلّا قليلا. قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله. وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك ، قال الزجاج : هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر ، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلّا البالغ في البلادة. والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولا على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد. الثالث : أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان : أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير : لو لا بعثة محمد وإنزال القرآن لا تبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلّا القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم. وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة هاهنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم : (فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً) [النساء : ٧٣] والتقدير : لو لا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلّا القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم ، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا ، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا ، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلا ، بل الأمر في كونه حقا وباطلا مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه. قوله : (فَقاتِلْ) قيل : إنه جواب لقوله : (وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ) [النساء : ٧٤] كأنه تعالى قال : إن أردت الفوز فقاتل. وقيل : إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلّا بفعلك ، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك ، ويعلم من قوله : (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه ، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا شيء. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات ، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب