الدين أمانة وإن كان مضمونا لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار. وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر. والائتمان افتعال من الأمن (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) حتى لا يدور في خلده جحود واختيان. وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده. والصحيح هو الأول. ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن. والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة. وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ. ثم قال : (لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) وفيه وجوه :
الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أمينا ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحدا للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعا على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه. وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلىاللهعليهوسلم : «خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد» (١) وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة. وقيل : المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و (قَلْبُهُ) فاعله. ويجوز أن يكون (قَلْبُهُ) مبتدأ و (آثِمٌ) خبره مقدما عليه ، والجملة خبر «إن». وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» (٢). وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي
__________________
(١) رواه أحمد في مسنده (٤ / ١١٧) ، (٥ / ١٩٢) بلفظ «خير الشهادة ما شهد بها صاحبها قبل أن يسألها».
(٢) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب ٣٩. مسلم في كتاب المساقاة حديث ١٠٧. ابن ماجه في الفتن باب ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب ١.