الواقفون والسائرون. والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : سيار وطيار. فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة ، والطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة. فالإشارة في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل ، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم : ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة. وقال بعضهم : كاشف لي صاحب اليمين وقال لي : أمل علي شيئا من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله. قال : فقلت له : حسبك الفرائض. فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هاربا منه. فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد ، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلا وحفيظ للطالب (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله ، رهان وأية رهان ، قلوب ليس فيها غير الله قبض ، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن. أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب ، مغلوب العقل ، مجذوب السر ، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد.
مستهام ضاق مذهبه |
|
في هوى من عز مطلبه |
كل أمر في الهوى عجب |
|
وخلاصي منه أعجبه |
وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة ، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين. لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها ، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ولقب في النهاية بالظلم والجهل (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب : ٧٢] هذا أمر عجيب ونقش غريب ، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين. ومن