المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني ، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان ، والصبر في أيوب ، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى ، والصدق في إسماعيل ، والتضرع في يونس ، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون ، ولهذا قال «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي».
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأمة (عَلَيْهِ) على البلاغ (أَجْراً إِنْ هُوَ) يعني القرآن (إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. وفيه دليل على أنه صلىاللهعليهوسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم.
التأويل : ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب. ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلىاللهعليهوسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعا لموهبة إبراهيم ، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلىاللهعليهوسلم وآله ، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد (وَاجْتَبَيْناهُمْ) في الأزل لهذا الشأن (وَهَدَيْناهُمْ) إلى الأبد (وَلَوْ أَشْرَكُوا) بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئا من دوننا ونسبوا شيئا من الحوادث إلى غير قدرتنا ، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا (لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له : آدم في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى ، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأنبياء على الاقتداء (أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء ، أو (لا أَسْئَلُكُمْ) أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق (أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ) من الله وبه وإليه وهو المستعان.
(وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (٩١) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى