فاعل قدير مختار خبير. ولهذا قال (قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ) ميزنا بعضها عن بعض (لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاما ، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه ، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلا فضلا عن العلم. ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) قيل : أي من جانب السماء وقيل : أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت. وقال أكثر أهل الظاهر : أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد. ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم. قال ابن عباس : يريد بالماء هاهنا المطر ، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك. والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها. (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه (نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ) قال الفراء : أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك. وفي الآية التفاتان : الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل «نحن الذين أنزلنا» والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة ، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك. ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) فقال (فَأَخْرَجْنا مِنْهُ) أي من النبات (خَضِراً) شيئا أخضر طريا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. (نُخْرِجُ مِنْهُ) أي من ذلك الخضر (حَبًّا مُتَراكِباً) بعضه على بعض. قال ابن عباس : يريد القمح والشعير والسلت والذرة ، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر. والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال (وَمِنَ النَّخْلِ) وهو خبر وقوله (مِنْ طَلْعِها) بدل منه كأنه قيل : وحاصلة من طلع النخل (قِنْوانٌ) أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه. والتقدير : ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو. والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب ، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة. قال ابن عباس : يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها. وعنه أيضا أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض. قال الزجاج : ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ويحتمل أن يقال : ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم. وقيل : أراد بكونها دانية أنها سهلة