سبحانه ، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه ، وما كان توكلهم إلا عليه ، ولم يكن أنسهم إلا به ، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه : (وَهُوَ وَلِيُّهُمْ) على أنه متكفل لجميع مصالحهم دينا ودنيا. ثم قال : (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بسبب أعمالهم ، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا ، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس ، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال : ويوم نحشرهم والمراد واذكر يوم كذا ، أو يوم نحشرهم قلنا ، أو متعلقة محذوف والتقدير : ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته ، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم ، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج : التقدير فيقال لهم : (يا مَعْشَرَ الْجِنِ) لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) [البقرة : ١٧٤] (قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس ، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال ؛ استكثر الأمير من الجنود. أما قوله : (وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ) فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفا فكما قال للجن تبكيتا ناسب أن يقول للإنس أيضا مثل ذلك توبيخا لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله : (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) وفيه قولان : الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان : أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفردا وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمنا في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن ، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيما منهم للجن ؛ وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦]