الآباد من غير زوال ولا انقطاع. قيل : في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم.
ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ) أقدرناكم على التصرف فيها (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها ، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار ، أو بواسطة كالاكتساب والوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة. وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيها بصحائف واستبعده النحويون البصريون. ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣].
التأويل : (المص) هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح. وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله. (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) قبل أفسدنا استعدادها (فَجاءَها بَأْسُنا) أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان (قائِلُونَ) في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمما قابلي الدعوة (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ) فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثا وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ) لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة. (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن