الإلجاء المنافي للتكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكا لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل «الأنعام». ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال (لِيُنْذِرَكُمْ) الآية. وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار ، ومن الإنذار التقوى ، ومن التقوى الفوز برحمة الله. قال الجبائي والكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا (فَكَذَّبُوهُ) في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء : ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه ، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا. والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ) استقروا (مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) وأنجيناهم في السفينة من الطوفان. قيل : كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل : كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. وإنما قال في سورة يونس (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) [الآية : ٧٣] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد. وقال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر. فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث.
القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) والتقدير لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. واتفقوا على أن هودا ما كان أخاهم في الدين. ثم قال الزجاج : معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن. وقيل : أراد واحدا منهم قاله الكلبي ، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم ، وقيل : خص واحدا منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته. وقيل : معناه صاحبهم. والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال صلىاللهعليهوسلم «إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن» يريد صاحبهم. ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح و (هُوداً) عطف بيان لأخاهم. وأما عاد فهم كانوا باليمن بالأحقاف. قال ابن إسحق : والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت. واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وهاهنا (قالَ يا قَوْمِ) والفرق أن نوحا عليهالسلام كان مواظبا على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود. ويمكن أن يقال : لما أضمر (أَرْسَلْنا) أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء (أَرْسَلْنا) وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف. ومنها قوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ