وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. قلت : والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول : أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا. وأيضا إن القوم لما قالوا (لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون. وفي الآية فوائد أخرى منها : أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار. ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده. قال الكلبي : خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم. ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة للإيمان عزّى نفسه وقال (فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. والأسى شدة الحزن. وقيل : المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟.
التأويل : (وَلا تَبْخَسُوا) فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها. (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ) لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد. (إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ) بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين (وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ) أي الروح والقلب (وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا) وهم النفس وصفاتها (وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ) لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعا للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) في القسمة الأزلية (افْتَحْ بَيْنَنا) احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) فصارت صورتهم تبعا لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) لأن الباطل زاهق لا محالة.
(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا