فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي. قال بعض العلماء : السماء كالدائرة والأرض كالمركز ، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء. وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض ، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين ، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية ، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وأيضا إن لحركة كل فلك أوّلا لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير ، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال. وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلا فاختصاص ابتداء حدوثه بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية. وأيضا إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام ، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء. هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام ، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي ـ الآباء ـ في العنصريات ـ وهي الأمهات ـ لتحصيل المواليد الثلاثة : المعادن والنباتات والحيوانات ، ارتقينا من ذلك أيضا إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات. أما قوله (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) فمعناه أحدث وأنشأ ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد ، ولو كان بمعنى «صير» اقتضى مفعولين. وإنما لم يقل «وخلق» لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر. وقيل : لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة ، والنور من النار ، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة. ووحد النور لأن النار واحد وهو منها ، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر ، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض. وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق ، والنور نور الإسلام واليقين ، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية ، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة ، أو لأنه قصد بالنور الجنس. وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى. وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق