الحوق بالضم ما استدار بالكمرة (ما كانُوا) أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم ، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به. ويحتمل أن يراد بلفظة «ما» العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك ، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم : لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار. واعلم أنه سبحانه قال هاهنا (ثُمَّ انْظُرُوا) وفي موضع آخر (فَانْظُروا) [آل عمران : ١٣٧] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير. وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب. وأيضا شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم.
التأويل : حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات. أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية ، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة ، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١] وحيث أراد معناه قال (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلا لربهم (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال (وَهُوَ اللهُ) في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم (وَجَهْرَكُمْ) الذي يظهر عنكم (وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر (مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ) في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات. وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدرارا متواليا ، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها (وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين (لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) ليفهموا خطابه ويكون واقفا على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) [إبراهيم : ٤] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة.