قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] دليل الرضا والتقريب. قلت : هذا وجه حسن. أما قوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : «أهيا شراهيا» تفسيره «يا حي يا قيوم» يحكى أن رجلا قال لجعفر الصادق رضياللهعنه : ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال : أخبرني عن حرفتك. فقال : التجارة في البحر قال : صف لي كيف حالك؟ فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضياللهعنه : هل وجدت في قلبك تضرعا؟ فقال : نعم. قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت. (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الشدة كما مر في الأنعام (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازا من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ببني قريظة. قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا. ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : (عَلى أَنْفُسِكُمْ) صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلىاللهعليهوسلم : «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة» وروي «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين» وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر. قال تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها (ثُمَ) إلى ما وعدنا من المجازاة (مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلا لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها العجيبة الشأن (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي اشتبك بسبب هذا الماء