التفسير : لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية ، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس. فالحجة الأولى قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة ، وكان صلىاللهعليهوسلم يقول : «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم» ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. (وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. (وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى ، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر. (فَذلِكُمُ) الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة (اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ) الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِ) «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق (إِلَّا الضَّلالُ) والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال ، إذ لا واسطة بين الأمرين ، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. (كَذلِكَ) أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ). وتفسير الكلمة (أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل ، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة : قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال : (حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر