والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ، ثم إنها تشتغل بهداية الغير. ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال : هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه ، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه. ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال : (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال : (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء ، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. (إِنَّ الظَّنَ) في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه (لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ) وهو العلم والتحقيق (شَيْئاً) من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ). وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن ، وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. ولما فرغ من دلائل التوحيد شرع في إثبات النبوة فقال : (ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) أي افتراء من دون الله أو كلمة «أن» بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. (وَلكِنْ) كان (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها ، ونفس هذا التصديق أيضا معجز لأن أقاصيصه موافقة لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه ، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقا فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله : (وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ) أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) [النساء : ٢٤] قال في الكشاف قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) داخل في حيز الاستدراك كأنه قال : ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين ، وجوز أن يكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) متعلقا بتصديق وتفصيل و (لا رَيْبَ فِيهِ) اعتراض كقولك : زيد لا شك فيه كريم. والمعنى ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهما على سبيل الإنكار (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ) إن كان الأمر