بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) [البقرة : ٢٥] (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ) [التوبة : ٢١] وقيل : إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن. عن أبي ذر رضياللهعنه قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال : تلك عاجل بشرى المؤمن. والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوبا لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضا عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوما بالطبع لما سوى الله. وقيل : هي الرؤيا الصالحة. وعنه صلىاللهعليهوسلم : «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» (١) وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلىاللهعليهوسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره ـ وهو ثلاث وستون سنة ـ وكان يأتيه الوحي أوّلا بطريق المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء : البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) [فصلت : ٣٠] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في «الأنعام» (ذلِكَ) إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام. تقول : فلان ينطق بالحق والحق أبلج ، قال القاضي : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديما ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد : لا شريك لله. ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال : (وَلا يَحْزُنْكَ) أو نقول : إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ) أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب التعبير باب ٢ ، ٤ ، ١٠. مسلم في كتاب الرؤيا حديث ٦ ، ٧ ، ٨ ، ٩. أبو داود في كتاب الأدب باب ٨٨. الترمذي في كتاب الرؤيا باب ١ ، ٢ ، ٦ ، ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب ١ ، ٣ ، ٩. الدارمي في كتاب الرؤيا باب ٢. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث ١ ، ٣. أحمد فى مسنده (٢ / ١٨ ، ٥٠).