فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له» (١). واعلم أنه ذكر هاهنا (أَرَأَيْتَكُمْ) مرتين فزاد خطابا واحدا ، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد ، وفيما بينهما قال (أَرَأَيْتُمْ) حيث لم يكن كذلك ، وكذلك في يونس. ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ) بالثواب على الطاعات (وَمُنْذِرِينَ) بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف : جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام وفيه نظر ، لأن المس ليس من خواص الأحياء ، نعم إنه من خواص الأجسام ، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدا. قال القاضي : إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرا. وأقول : هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس ، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس.
ثم أمر نبيه صلىاللهعليهوسلم أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة فقال (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء ، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي (وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) قال في الكشاف : محله النصب عطفا على محل قوله (عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ) لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا. قلت : ويحتمل أن يكون عطفا على (لا أَقُولُ) أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكا فإن النبي صلىاللهعليهوسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها. واختلف المفسرون في فائدة نفي هذه الأمور فقيل : المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليهالسلام. وقيل : المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) إلى قوله (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] وقيل : أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد هاهنا (لَكُمْ) بخلاف سورة هود حيث قال (وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) [الآية : ٣١] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ) [هود : ٢٥] فاكتفى بذلك. قال الجبائي : في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ
__________________
(١) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث ٦٤. أحمد في مسنده (٤ / ٣٣٢ ، ٣٣٣).