إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد ، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك. ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله (قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) على حجة واضحة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه (وَكَذَّبْتُمْ) أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال : أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عنده بدليل. وقيل : أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. (ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢] قال الكلبي : نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون : يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة : لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله ، واحتجت المعتزلة بقوله يقضي الحق أي كل ما قضى به فهو الحق ، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال : إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب (الْحَقَ) على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق ، أو مفعول به من قولهم : قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ يقصر الحق كقوله (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف : ٢] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره (وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) أي القاضين ، وإنما كتب يقض في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين ، وليوافق قراءة (يَقُصُ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي) أي في قدرتي وإمكاني (ما تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب (لَقُضِيَ الْأَمْرُ) أمر الإهلاك (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) عاجلا غضبا لربي (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت : أما يناقض هذا قوله (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا) [الكهف : ٦] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان ، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعا في إيمانه. قلت : لا ، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ) أراد أنه المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع ، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح ، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن ، قال الحكيم في بيانه : إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط ، فعلمه