فلما رجموا قالوا: هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض. فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي صلىاللهعليهوسلم بمكة يصلي بأصحابه أو منفردا. فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح ، فقرأ فيها سورة «اقرأ» فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب. وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه صلىاللهعليهوسلم حتى أوحى الله إليه. والقول الثاني أنه صلىاللهعليهوسلم أمر بذلك فقال لأصحابه: إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود ، فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال: لا تبرح حتى آتيك. قال: فسمعت لغطا شديدا حتى خفت على النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم علا بالقرآن أصواتهم. فلما رجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم سألته عن اللغط فقال: اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم. وفي رواية أخرى عن ابن مسعود قال: قال لي رسول الله صلىاللهعليهوسلم: أمعك ماء؟ قلت: يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر. فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال: تمرة طيبة وماء طهور. واختلفوا في عددهم: عن ابن عباس: كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى. وقال عكرمة: كانوا عشرة من جزيرة الموصل ، وزر بن حبيش: كانوا تسعة ومنهم زوبعة. وقيل: اثني عشر ألفا.
ولنرجع إلى التفسير. قوله (وَإِذْ صَرَفْنا) معطوف على قوله (اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ) ومعنى صرفنا أملناهم إليك ، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار. والضمير في (حَضَرُوهُ) للنبي صلىاللهعليهوسلم أو القرآن (قالُوا) أي قال بعضهم لبعض (أَنْصِتُوا) والإنصاف السكوت لاستماع الكلام (فَلَمَّا قُضِيَ) أي فرغ النبي صلىاللهعليهوسلم من القراءة. وإنما قالوا (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) لأنهم كانوا يهودا أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى قومهم ، ومنه يعلم أنه صلىاللهعليهوسلم كان مبعوثا إلى الجن أيضا وهذا من جملة خصائصه. وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم (وَآمِنُوا بِهِ) لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف. و «من» في قوله (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في «إبراهيم». واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل: لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وهو قول أبي حنيفة. والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب. قوله (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ) أي لا يفوته هارب. قوله (وَلَمْ يَعْيَ) يقال: عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه. قوله (بِقادِرٍ) في محل الرفع لأنه خبر «أن» وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل: أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من