الزبانية كذلك. يروى أنه لما نزلت الآية قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم؟ فقال المسلمون: ويحكم أتقاس الملائكة بالحدادين أي السجانين؟ وجرى هذا مثلا في كل شيئين لا يسوىّ بينهما وأنزل الله تعالى (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون ويرحمون فإن الجنسية مظنة الرأفة ولذلك جعل النبي صلىاللهعليهوسلم من جنس الأمة ليكون بهم رؤفا رحيما. ولا استبعاد في كون الملائكة في النار غير معذبين بناء على القول بالفاعل المختار ، ولعلهم غلبت عليهم النارية فصارت لهم طبعا كالحيوانات المائية. وقوله (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً) الآية. هو على مذهب أهل السنة ظاهر ، وأما على أصول المعتزلة فقال الجبائي: المراد بالفتنة تشديد التعبد ، استدلوا به على كمال قدرة الله تعالى وقال الكعبي: هي الامتحان فيؤمن المؤمن بالمتشابه ويفوض حكمة التخصيص بهذا العدد إلى الخالق ، والكافر يعترض عليه. وقال: بعضهم: أراد ما وقعوا فيه من الكفر بسبب إنكارهم والتقدير إلا فتنة على الذين كفروا ، وحاصله يرجع إلى ترك الألطاف. وأجيب عن هذه التأويلات بأن تنزيل المتشابهات لا بد أن يكون له أثر في تقوية داعية الكفر وإلا كان إنزالها كلا إنزال. ومع هذا الترجيح لا يحصل الإيمان البتة وهو المعنى بالإضلال.
واعلم أن في الآية دلالة على أنه سبحانه جعل افتتان الكافر بعدد الزبانية سببا لأمور أربعة: أولها (لِيَسْتَيْقِنَ) ثانيها (وَيَزْدادَ) ثالثها (وَلا يَرْتابَ) رابعها (وَلِيَقُولَ) وفيه إشكال. قال جار الله: ما جعل افتتانهم بالعدد سببا ولكنه وضع (فِتْنَةً) موضع (تِسْعَةَ عَشَرَ) تعبيرا عن المؤثر باللفظ الدال على الأثر تنبيها على أن هذا الأثر من لوازم ذلك المأثر. وقال آخرون: تقديره وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للكافرين وإلا ليستيقن كما يقال: فعلت كذا لتعظيمك ولتحقير عدوك. قالوا: والعاطف يذكر في هذا الموضع تارة ويحذف أخرى. وأما سبب استيقان أهل الكتاب فهو أنهم قرؤا هذا العدد في كتابهم ولكنهم ما كانوا واثقين لتطرق التحريف إلى كتابهم. فلما سمعوا ذلك في القرآن تيقنوا بصحة نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه أخبرهم بما في كتابهم من غير سابقة دراسة وتعلم. ولأنه أخبر كفار قريش بهذا الأمر الغريب من غير مبالاة باستهزائهم وتكذيبهم فعرفوا أنه من قبيل الوحي وإلا لم يجترئ على التكلم به خوفا من السخرية. وأما زيادة إيمان المؤمنين فحمل على آثاره ولوازمه ونتائجه. وأما نفي الارتياب عن أهل الكتاب والمؤمنين بعد إثبات الاستيقان وزيادة الإيمان لهم فمن باب التوكيد كأنه قيل: حصل لهم يقين جازم بحيث لا يحصل بعده شك وريب. فإن الذي حصل له اليقين قد يغفل عن مقدمة من مقدمات الدليل فيعود له الشك. وفيه أيضا تعريض