لكل ما التجأت إليه وتحصنت به ، والمعنى أنه لا شيء يعتصم به وقتئذ من أمر الله إلا الله فلذلك قال (إِلى رَبِّكَ) خاصة دون غيره (يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ) أي استقرار العباد ولا بد من تقدير مضاف أي إلى حكم ربك أو إلى جنته أو ناره. (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ) من عمل (وَأَخَّرَ) فلم يعلمه ، أو بما قدم من ماله وتصدق به وما أخر فخلف أو بما قدم من عمل الخير والشر وما أخر من سنة حسنة أو سيئة. وعن مجاهد بأول عمله وآخره أي بجميع أعماله. والأظهر أن هذا الإنباء إنما هو في يوم القيامة. وجوز أن يكون عند الموت حين رأى مقعده من الجنة والنار. ثم بين أن الإنسان لأعماله بصير وإن لم ينبأ فقال (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) أي حجة بينة. وقال أبو عبيدة: التاء للمبالغة كعلامة. قال الأخفش: جعله في نفسه بصيرة كما يقال «فلان جود وكرم» وذلك أنه يعلم بالضرورة متى رجع إلى عقله أن طاعة خالقه واجبة وعصيانه منكر فهو حجة على نفسه بعقله السليم. قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل: إن المراد شهادة جوارحه عليه. قوله (وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) تأكيد أي ولو جاء بكل معذرة يحاج بها عن نفسه فإنها لا تنفعه لأنه لا يخفى شيئا من أفعاله فإن نفسه وأعضاءه تشهد عليه. قال الواحدي والزمخشري: المعاذير اسم جمع للمعذرة كالمناكير للمنكر ، ولو كان جمعا لقيل معاذر بغير ياء. وعن الضحاك والسدي أن المعاذير جمع معذار وهو الستر ، والمعنى إنه إن أسبل الستور لن يخفى شيء من عمله قال جار الله: إن صح هذا النقل فالسبب في التسمية أن الستر يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. فمدار التركيب على الحجب والمنع ومنه العذران قال الإمام فخر الدين الرازي: زعم قوم من قدماء الشيعة أن هذا القرآن مغير بالزيادة والنقصان ، ومن جملة استدلالاتهم أنه لا مناسبة بين هذه الآية وبين قوله عقيبها (لا تُحَرِّكْ بِهِ) أي بالقرآن الذي نتلوه عليك (لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) أي بأخذه. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يشتد عليه حفظ التنزيل فكان إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه وشفتيه قبل فراغ جبرائيل مخافة النسيان فنهاه الله تعالى عن ذلك ، نظيره ما مر في «طه» (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [الآية: ١١٤] وهذا من قبيل ترك الأولى ، أو لعل هذا كان مأذونا فيه أولا ثم ورد النهي ناسخا له (إِنَّ عَلَيْنا) بحكم الوعد أو بالنظر إلى الحكمة (جَمْعَهُ) في صدرك (وَقُرْآنَهُ) سيعيده عليك جبرائيل أو توقيفك لدراسته وحفظه لقوله (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى: ٦] فالقارىء على الأول جبرائيل ، وعلى الثاني محمد صلىاللهعليهوسلم. وقيل: أراد بالجمع ترتيبه على ما هو عليه في الخارج وبالقرآن جمعه في ذهنه ، والتركيب يدل على الضم ومنه القرء (فَإِذا قَرَأْناهُ) بقراءة جبرائيل (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) قال قتادة: أي حلاله وحرامه