التكاليف لأن المكلف لا يصير زاكيا إلا بالتخلية عن كل ما لا ينبغي ، ويجوز أن يكون التزكي إشارة إلى تطهير النفس الفاسدة. قوله (وَأَهْدِيَكَ) إشارة إلى التحلي بالأخلاق الفاضلة أقلها وأفضلها التوحيد المرتب عليه الخشية التي منها تنشأ جوامع الخيرات ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل» وعن بعض الحكماء: اعرفوا الله فمن عرفه لم يقدر أن يعصيه طرفه عين. ثم هاهنا إضمار كأنه قال: فذهب موسى إلى فرعون فقال له ما أمر به فلم يصدقه فرعون وجحد نبوته (فَأَراهُ) وفي ابتداء المخاطبة بالاستفهام الذي معناه العرض من التلطف والمداراة ما لا يخفى فهو كقوله (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) [طه: ٤٤] والآية الكبرى العصا أو اليد أو هما كما مر في «طه» (فَكَذَّبَ) بالقلب واللسان إذ نسب المعجز إلى السحر (وَعَصى) بإظهار التمرد والطغيان (ثُمَّ أَدْبَرَ) خوفا من الثعبان (يَسْعى) هاربا أو يتحيل في دفع موسى أو تولى عن موسى إظهارا للجحود. وجوز أن يكون (أَدْبَرَ) موضوعا مكان «أقبل» كما يقال: أقبل فلان يفعل كذا بمعنى طفق يفعل فكنى عن الإقبال بالإدبار إظهارا للسخط ولقصد التفاؤل عليه. ومعنى الفاء في (فَكَذَّبَ) أنه لم يلبث عقيب رؤية الآية الكبرى أن بادرها بنقيض مقتضاها لفرط عتوّه ورسوخ تفر عنه. ومعنى «ثم» في (ثُمَّ أَدْبَرَ) تراخي الرتبة فإن الهرب من الحية مع ادعاء الربوبية مما لا يجتمعان وكذا السعاية والمكيدة بين الناس (فَحَشَرَ) جنوده للتشاور أو لجمع السحرة (فَنادى) في المقام الذي اجتمعوا فيه معه أو أمر مناديا. وقيل: قام فيهم خطيبا فقال ما قال. وانتصب (نَكالَ الْآخِرَةِ) على أنه مصدر مؤكد كأنه قيل: نكل الله به نكالا وهو مصدر كالتنكيل مثل السلام والتسليم. قال الحسن وقتادة: عذاب الآخرة الإحراق وعذاب الأولى الإغراق. وقيل: الآخرة والأولى صفتان لكلمتي فرعون. ثم اختلفوا فعن مجاهد والشعبي وسعيد بن جبير ومقاتل ورواية عطاء والكلبي عن ابن عباس أن كلمته الأولى (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص: ٣٨] والثانية (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) [النازعات: ٢٤] وبينهما أربعون سنة أو عشرون ، وفيه دليل على أنه تعالى يمهل ولا يهمل. وذكر قوم واستحسنه القفال أن كلمته الأولى تكذيب موسى حين أراه الآية ، والأخرى هي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وقد يدور في الخلد أن كلمته الأولى هي قوله (أَنَا رَبُّكُمُ) والآخرة وصفه بالأعلى فإنه لو اقتصر على الأولى لم يكن كفرا بدليل قول يوسف (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [يوسف: ٥٠] (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف: ٢٣] لكنه لما وصفه بالأعلى صار كفرا فأخذه بالأولى والآخرة.
قال الإمام فخر الدين الرازي: إن العاقل لا يشك في نفسه أنه ليس خالق السموات