الثالث : الوقوف عند حرف معين للفاصلة في بعض السور ، والانتقال منه للوقوف عند حرف آخر للفاصلة في بعضها الآخر ، وأمثلته متوافرة في جملة من سور القرآن ، كالنبأ ، والمرسلات ، والنازعات ، والتكوير ، والانفطار ، والمطففين ، وانظر إلى قوله تعالى في سورة « عبس » وهي تواكب صوت الهاء في فواصل عدة آيات ، ثم تنتقل إلى الراء الملحقة بالتاء القصيرة بعدها في أيات أخر :
( يوم يفرالمرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل أمرى منهم يومئذ شأن يغنيه * وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة * ترهقها قترة * أولئك هم الكفرة الفجرة ) (١).
وقد لا يراد الملحظ الصوتي مجرداً عند الابعاد الأخرى في فواصل الآيات ، فقد يجتمع في الفاصلة الغرض الفني بجنب الغرض الديني ، فتودي الفاصلة غرضين في عمل مزدوج ، فمن أبرز الصور الاجتماعية الهادفة في سورة البلد : آيات العقبة ، وتفصيلات يوم القيامة ، في تجاوز مظاهرالغل والقيد ، ومراحل الفقر والجوع ليتم تجاوز العقبة الحقيقية في القيامة ، ولا يتم ذلك إلا بتجاوز عقبات الظلم الاجتماعي ، وتخطي مخلفات العهد الجاهلي ، واقتحام القيم التي عطلت الحياة الإنسانية عن مسيرتها في التحرر والانطلاق ، وهي قيم قاتلة ، وأعراف بالية نشأت عن الطغيان المتسلط ، والتفاوت الطبقي المقيت ، فالرق ضارب بأطنابه ، والاستئثار شكل مجاعة بشرية جماعية ، والقطيعة في الأرحام أنهكت الأيتام ، والغنى اللامشروع فجرّ سيلاً من الأوضار الاجتماعية تشكل رعيلاً سادراً من الأرامل والأيامى والمساكين ، ممن ألصقهم الفقر بالتراب ، أو لصقوا هم به من الفقر والضر والفاقة ، فأحال ألوانهم كلونه ، فهم يلتحفون التراب ويفترشونه ، ولا يجدون غيره ، حتى عادوا جزءاً منه ، وعاد هو جزءاً من كيانهم ، فمن التراب وعلى التراب وإلى التراب.
هذا المناخ المزري عقبات متراكمة ، من فوقها عقبات متراكمة ، وإزالة هذه العقبات تدريجياً هو الطريق إلى قفز تلك العقبة الكبرى
__________________
(١) عبس : ٣٤ ـ ٤٢.