إلى ماء إذا صادف فى الجوّ طبقة باردة ولكنه يراها :
كأن الغيوم جيوش تسوم |
|
من العدل فى كلّ أرض صلاحا (١) |
إذا قاتل المحل فيها الغمام |
|
بصوب الرّهام أجاد الكفاحا (٢) |
يقرطس بالطّلّ فيه السّهام |
|
ويشرع بالوبل فيه الرّماحا (٣) |
وسلّ عليه سيوف البروق |
|
فأثخن بالضرب فيه الجراحا (٤) |
ترى ألسن النور تثنى عليه |
|
فتعجب منهن خرسا فصاحا (٥) |
وقد يتظاهر الأديب بإنكار أسباب حقائق العلم ، ويتلمس لها من خياله أسبابا تثبت دعواه الأدبية وتقوّى الغرض الذى ينشده ، فكلف البدر الذى يظهر فى وجهه ليس ناشئا عما فيه من جبال وقيعان جافة كما يقول العلماء ، لأن المعرّى (٦) يرى لذلك سببا آخر فيقول فى الرثاء :
وما كلفة البدر المنير قديمة |
|
ولكنها فى وجهه أثر اللّطم (٧) |
ولا بد فى هذا الأسلوب من الوضوح والقوة ؛ فقول المتنبى :
قفى تغرم الأولى من اللّحظ مهجتى |
|
بثانية والمتلف الشىء غارمه (٨) |
غير بليغ ؛ لأنه يريد أنه نظر إليها نظرة أتلفت مهجته ، فيقول لها قفى لأنظرك نظرة أخرى ترد إلىّ مهجتى وتحييها ، فإن فعلت كانت النظرة غرما لما أتلفته النظرة الأولى.
__________________
(١) تسوم من العدل فى كل أرض صلاحا ، أى تولى كل أرض صلاحا بالخصب والنماء.
(٢) المحل : الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ ، والصواب : نزول المطر ، والرهام : جمع رهمة وهى المطر الضعيف الدائم ، والكفاح : القتال والمدافعة.
(٣) القرطاس : الغرض أو الهدف ، ويقال قرطس الرامى إذا أصاب القرطاس أى الغرض ، فهو يقول : إن الغمام يسدد السهام إلى المحل فيقضى عليه ، ومعنى يشرع الرماح يسددها ، والوبل : المطر الشديد الضخم القطر.
(٤) أثخن بالضرب فيه الجراح : بالغ الجراحة فيه.
(٥) النور : الزهر.
(٦) المعرى : هو أبو العلاء المعرى اللغوى الفيلسوف الشاعر المشهور ، ولد بالمعرة وهى بلد صغير بالشام ، وعمى من الجدرى وهو فى الرابعة من عمره ، وتوفى بالمعرة سنة ٤٤٩ ه
(٧) الكلفة : حمرة كدرة تعلو الوجه.
(٨) غرم ما أتلفه : لزمه أداؤه ، وتغرم جواب قفى وفاعله الأولى ، ومن اللحظ بيان للأولى ، ومهجتى مفعول تغرم.