البحث :
عرفنا فى الباب السابق أن المخاطب إن كان خالى الذهن ألقى إليه الخبر غير مؤكّد ، وإن كان متردّدا فى مضمون الخبر طالبا معرفته حسن توكيده له ، وإن كان منكرا وجب التوكيد ، وإلقاء الكلام على هذا النمط هو ما يقتضيه الظاهر. وقد توجد اعتبارات تدعو إلى مخالفة هذا الظاهر نشرحها فيما يأتى :
انظر إلى المثال الأول تجد المخاطب خالى الذهن من الحكم الخاص بالظالمين ، وكان مقتضى الظاهر على هذا أن يلقى إليه الخبر غير مؤكد ، ولكن الآية الشريفة جاءت بالتوكيد ، فما سبب خروجها عن مقتضى الظاهر؟ السبب أن الله سبحانه لما نهى نوحا عن مخاطبته فى شأن مخالفيه دفعه ذلك إلى التطلع إلى ما سيصيبهم ، فنزل لذلك منزلة السائل المتردد ؛ أحكم عليهم بالإغراق أم لا؟ فأجيب بقوله : «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ».
وكذلك الحال فى المثال الثانى ، فإن المخاطب خالى الذهن من الحكم الذى تضمنه قوله تعالى : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) غير أن هذا الحكم لما كان مسبوقا بجملة أخرى وهى قوله تعالى : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) وهى تشير إلى أن النفس محكوم عليها بشىء غير محبوب ، أصبح المخاطب مستشرفا متطلعا إلى نوع هذا الحكم ، فنزّل من أجل ذلك منزلة الطالب المتردد ، وألقى إليه الخبر مؤكدا.
انظر إلى المثال الثالث تجد المخاطبين غير منكرين الحكم الذى تضمنه قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) ، فما السبب إذا فى إلقاء الخبر إليهم مؤكدا؟ السبب ظهور أمارات الإنكار عليهم ، فإن غفلتهم عن الموت وعدم استعدادهم له بالعمل الصالح يعدّان من علامات الإنكار ، ومن أجل ذلك نزّلوا منزلة المنكرين وألقى إليهم الخبر مؤكّدا بمؤكّدين.
وكذلك الحال فى قول حجل بن نضلة ، فإن شقيقا لا ينكر رماح بنى عمه ، ولكن مجيئه عارضا رمحه من غير تهيؤ للقتال ولا استعداد له ،