وافرين (١) ما نأل رجلا منهم كلم (٢) ، ولا أريق لهم دم ، فلو أن رجلا مسلما مات من بعد هذا أسفا ، ما كان به ملوما ، بل كان عندى جديرا.
«فواعجبا من جدّ هؤلاء فى باطلهم ، وفشلكم عن حقّكم. فقبحا لكم حين صرتم غرضا يرمى (٣) ، يغار عليكم ولا تغيرون ، وتغزون ولا تغزون ، ويعصى الله وترضون (٤)».
فانظر كيف تدرج ابن أبى طالب فى إثارة شعور سامعيه حتى وصل إلى القمّة فانه أخبرهم بغزو الأنبار أولا ، ثم بقتل عامله ، وأنّ ذلك لم يكف سفيان بن عوف فأغمد سيوفه فى نحور كثير من رجالهم وأهليهم.
ثم توجه فى الفقرة الثانية إلى مكان الحميّة فيهم ، ومثار العزيمة والنخوة من نفس كل عربى كريم ، ألا وهو المرأة ، فإن العرب تبذل أرواحها رخيصة فى الذود عنها ، والدفاع عن خدرها. فقال : إنهم استباحوا حماها ، وانصرفوا آمنين.
وفى الفقرة الثالثة أظهر الدّهش والحيرة من تمسك أعدائه بالباطل ومناصرته ، وفشل قومه عن الحق وخذلانه. ثم بلغ الغيظ منه مبلغه فعيّرهم بالجبن والخور.
هذا مثال من أمثلة الأسلوب الخطابى نكتفى به فى هذه العجالة ، ونرجو أن نكون قد وفقنا إلى بيان أسرار البلاغة فى الكلام وأنواع أساليبه ، حتى يكون الطالب خبيرا بأفانين القول ، ومواطن استعمالها وشرائط تأديتها ، والله الموفق.
__________________
(١) وافرين : تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم.
(٢) الكلم بالفتح : الجرح.
(٣) الغرض : ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها.
(٤) يشير بالعصيان إلى ما كان يفعله جيش معاوية من السلب والنهب والقتل فى المسلمين والمعاهدين ، أما رضا أهل العراق بهذا العصيان فكناية عن قعودهم عن المدافعة ، إذ لو غضبوا لهموا إلى القتال.