تأليف هذه الألوان بحيث تختلب الأبصار وتثير الوجدان ، والبليغ إذا أراد أن ينشئ قصيدة أو مقالة أو خطبة فكر فى أجزائها ، ثم دعا إليه من الألفاظ والأساليب أخفها على السمع ، وأكثرها اتصالا بموضوعه. ثم أقواها أثرا فى نفوس سامعيه وأروعها جمالا.
فعناصر البلاغة إذا لفظ ومعنى وتأليف للألفاظ يمنحها قوة وتأثيرا وحسنا. ثم دقة فى اختيار الكلمات والأساليب على حسب مواطن الكلام ومواقعه وموضوعاته وحال السامعين والنّزعة النفسية التى تتملّكهم وتسيطر على نفوسهم ، فربّ كلمة حسنت فى موطن ثم كانت نابية مستكرهة فى غيره. وقديما كره الأدباء كلمة «أيضا» وعدّوها من ألفاظ العلماء فلم تجربها أقلامهم فى شعر أو نثر حتى ظهر بينهم من قال :
ربّ ورقاء هتوف فى الضّحا |
|
ذات شجو صدحت فى فنن (١) |
ذكرت إلفا ودهرا سالفا |
|
فبكت حزنا فهاجت حزنى (٢) |
فبكائى ربّما أرّقها |
|
وبكاها ربّما أرّقنى (٣) |
ولقد تشكو فما أفهمها |
|
ولقد أشكو فما تفهمنى |
غير أنّى بالجوى أعرفها |
|
وهى «أيضا» بالجوى تعرفنى (٤) |
فوضع «أيضا» فى مكان لا يتطلب سواها ولا يتقبّل غيرها ، وكان لها من الرّوعة والحسن فى نفس الأديب ما يعجز عنها البيان.
وربّ كلام كان فى نفسه حسنا خلابا حتى إذا جاء فى غير مكانه ، وسقط فى غير مسقطه ، خرج عن حدّ البلاغة ، وكان غرضا لسهام الناقدين.
__________________
(١) الورقاء : الحمامة فى لونها بياض إلى سواد. والهتوف : كثيرة الصياح. والشجو : الهم والحزن. والصدح : رفع الصوت بالغناء ، والفنن : الغصن.
(٢) الإلف : الأليف
(٣) الأرق : السهر ، وأرقها : أسهرها.
(٤) الجوى : الحرقة وشدة الوجد.