ومن أمثلة ذلك قول المتنبى لكافور الإخشيدى (١) فى أول قصيدة مدحه بها :
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا |
|
وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا (٢) |
وقوله فى مدحه :
وما طربى لمّا رأيتك بدعة |
|
لقد كنت أرجو أن أراك فأطرب |
قال الواحدىّ (٣) : هذا البيت يشبه الاستهزاء فإنه يقول : طربت عند رؤيتك كما يطرب الإنسان لرؤية المضحكات. قال ابن جنّى (٤) : لما قرأت على أبى الطيب هذا البيت قلت له : ما زدت على أن جعلت الرجل قردا ، فضحك. ونرى أن المتنبى كان يغلى صدره حقدا على كافور وعلى الأيام التى ألجأته إلى مدحه ؛ فكانت تفر من لسانه كلمات لا يستطيع احتباسها وقديما زلّ الشعراء لمعنى أو كلمة نفّرت سامعيهم ، فأخرجت كلامهم عن حد البلاغة ، فقد حكوا أن أبا النجم (٥) دخل على هشام ابن عبد الملك وأنشده :
صفراء قد كادت ولمّا تفعل |
|
كأنّها فى الأفق عين الأحول (٦) |
__________________
(١) كافور الإخشيدى : هو الأمير المشهور صاحب المتنبى ، وكان عبدا اشتراه الإخشيد ملك مصر سنة ٣١٢ ه فنسب إليه وأعتقه ، فترقى عنده ، وما زالت همته تسمو به حتى ملك مصر سنة ٣٥٥ ه ، وكان مع شجاعته فطنا ذكيا حسن السياسة ، وتوفى بالقاهرة سنة ٣٥٧ ه
(٢) كفى بك : أى كفاك فالباء زائدة ، والمنايا جمع منية وهى الموت ، والأمانى : جمع أمنية وهى الشىء الذى تتمناه ؛ يخاطب أبو الطيب نفسه ويقول : كفاك داء رؤيتك الموت شافيا لك ، وكفى المنية أن تكون شيئا تتمناه.
(٣) الواحدى : مفسر عالم بالأدب ، مولده ووفاته بنيسابور ، وكتبه البسيط والوسط والوجيز فى التفسير مخطوطة ، وشرحه لديوان المتنبى مطبوع توفى سنة ٤٦٨ ه.
(٤) ابن جنى : هو من أئمة النحو والعربية ولد فى الموصل وتوفى ببغداد سنة ٣٩٢ ه. ومن مؤلفاته الخصائص فى اللغة ، وكان المتنى يقول : ابن جنى أعرف بشعرى منى.
(٥) أبو النجم : هو الفضل بن قدامة ، وهو من رجال الإسلام ، والفحول المتقدمين فى الطبقة الأولى منهم ، وله مع هشام بن عبد الملك أخبار طويلة ، وكانت وفاته آخر دولة بنى أمية.
(٦) قيل هما البيت فى وصف الشمس ، والأحول : من بعينه حول. وهو ظهور البياض فى مؤخر العين ، ويكون السواد من قبل الماق.