والقول الثاني : إن وجه الإعجاز في القرآن صرف العرب عن المعارضة (١) مع أن فصاحة القرآن كانت في مقدورهم لو لا الصرف ، وأمر القائل بهذا يجري مجرى الأول في الحاجة إلى تحقيق الفصاحة ما هي؟ ليقطع على أنها كانت في مقدورهم ، ومن جنس فصاحتهم ، ونعلم أن مسيلمة (٢) وغيره لم يأت بمعارضة على الحقيقة ، لأن الكلام الذي أورده خال من الفصاحة التي وقع التحدي بها في الأسلوب المخصوص.
وإذا ثبت بما ذكرناه الغرض بهذا الكتاب ، وفائدته ، فالدواعي إلى معرفة ذلك قوية ، والحاجة ماسة شديدة.
ونحن نذكر قبل الكلام في معنى الفصاحة نبذا من أحكام الأصوات والتنبيه على حقيقتها ، ثم نذكر تقطّعها على وجه يكون حروفا متميزة ، ونشير إلى طرف من أحوال الحروف في مخارجها ، ثم ندل على أن الكلام ما انتظم منها ، ثم نتبع ذلك بحال اللغة العربية وما فيها من الحروف ، وكيف يقع المهمل فيها والمستعمل ، وهل اللغة في الأصل مواضعة أو توقيف ، ثم نبين بعد هذا كله وأشباهه مائية الفصاحة ، ولا نخلي ذلك الفصل من شعر فصيح ، وكلام غريب بليغ ، يتدرّب بتأمله على فهم مرادنا ، فإن الأمثلة توضح وتكشف ، وتخرج من اللبس إلى البيان ، ومن جانب الإبهام إلى الإفصاح ، فإذا أعان الله تعالى ويسر تمام كتابنا هذا كان مفردا بغير نظير من الكتب في معناه.
وذلك أن المتكلمين وإن صنفوا في الأصوات وأحكامها وحقيقة الكلام ما هو؟ فلم يبينوا مخارج الحروف ، وانقسام أصنافها ، وأحكام مجهورها ومهموسها ، وشديدها ورخوها ، وأصحاب النحو وإن أحكموا بيان ذلك ، فلم يذكروا ما أوضحه المتكلمون الذي هو الأصل والأسّ ، وأهل نقد الكلام (٣) فلم يتعرضوا لشيء من جميع ذلك ، وإن كان كلامهم كالفرع عليه.
فإذا جمع كتابنا هذا كله ، وأخذ بحظ مقنع من كل ما يحتاج الناظر في هذا العلم إليه ، فهو منفرد في بابه ، غريب في غرضه ، وفق الله تعالى ذلك ، ويسره بلطفه ومنّه.
__________________
(١) هذا هو قول ابراهيم بن سيار المعروف بالنظام ، المتوفى سنة ٢٢١ ه.
(٢) مسيلمة الكذّاب الذي ادّعى النبوّة.
(٣) هم علماء البلاغة.