فأما الدليل على أن الصفة التي اقتضت الالتباس مما يتناوله الادراك ، فهو أن الأمر لو كان بخلاف ذلك لما التبسا على الادراك ، وفي التباسهما عليه دلالة على أن تعلق الإدراك بما التبسا لأجله ، ولأن المشاركة فيما لا يتعلق الإدراك به لا يقتضي الاشتباه على المدرك. ألا ترى أن السواد لا يشبه البياض ولا يلتبس به عند المدرك وإن اشتركا في الوجود ، من حيث كان الإدراك لا يتعلق بالوجود.
وليس لأحد أن يقول : إذا استدللتم على أن الأجسام متماثلة بالتباسها على الإدراك ، فقولوا : إن الأجسام التي لا تلتبس كالأبيض والأسود غير متماثلة لفقد الالتباس ، وذلك أن هذا مطالبة بالعكس في الأدلة ، وليس ذلك بمعتبر ، وإثبات المدلول مع ارتفاع الدليل جائز غير ممتنع ، لأن الدليل غير موجب للمدلول ، وإنما هو كاشف عنه ، لكن المنكر ثبوت الدليل وارتفاع المدلول ، على أن الالتباس في الجسمين المذكورين حاصل أيضا ، لأن المدرك لهما إنما يجوّز أن يكون أحدهما الآخر وإنما تغير لونه.
وأما الدليل على أن الإدراك يتعلق بأخص صفات الذوات ، وأن كلامنا كله متعلق به ، فهو أنه لا يخلو من أن يكون يتعلق بالصفة الراجعة إلى الفاعل ، أو الراجعة إلى العلة ، أو الراجعة إلى الذات ، والذي يرجع إلى الفاعل من الصفات هو الوجود ، ولو تناوله الإدراك لم يخل من أن يتعداه إلى ما يرجع إلى الذات ، أو لا يتعداه ، فإن لم يتعد وجب ألّا يحصل الفصل بين المختلفين بالإدراك ، لاشتراكهما في الوجود الذي لم يتناول الإدراك غيره ، وإن تعداه إلى الصفة العائدة إلى الذات فيجب أن يفصل بين المختلفين بالإدراك ، من حيث افترقا في الصفة التي يتعلق بها ، وأن يلتبس أحدهما بالآخر ، من حيث اشتركا في الوجود الذي تعلق الإدراك به أيضا ، وذلك محال ، فأما ما يرجع إلى العلل من صفات الجسم ، والذي يمكن أن يدخل شبهة في تناول الإدراك كونه كائنا في جهة ، والذي يوضح أن الإدراك لا يتناول ذلك أنه لو تناوله لفصل بالإدراك بين كل صفتين ضدين منه ، وذلك غير مستمر ، وأحدنا لو أدرك جوهرا في بعض الجهات ، ثم أعرض عنه ، جوّز أن يكون انتقلا