لأن بعض السنين سنة ، ويقال : رجل صات ، أي : شديد الصوت ، كما يقال : رجل نال ، أي : كثير النوال ، وقولهم : لفلان صيت ، إذا انتشر ذكره ، من لفظ الصوت ، إلا أن واوه انقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. كما قالوا : قيل ، من القول.
والصوت معقول ، لأنه يدرك ، ولا خلاف بين العقلاء في وجود ما يدرك ، وهو عرض ليس بجسم ، ولا صفة لجسم ، والدليل على أنه ليس بجسم ، أنه مدرك بحاسة السمع ، والأجسام متماثلة ، والإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات ، فلو كان جسما لكانت الأجسام جميعها مدركة بحاسة السمع ، وفي علمنا ببطلان ذلك دليل على أن الصوت ليس بجسم ، وهذه الجملة تحتاج إلى أن نبين أن الأجسام متماثلة ، وأن الإدراك إنما يتعلق بأخص صفات الذوات ، لأن كون الصوت مدركا بالسمع والأجسام غير مدركة بالسمع مما لا يمكن دخول شبهة فيه ولا منازعة ، والذي يدل على تماثل الأجسام أنا ندرك الجسمين المتفقي اللون فيلتبس أحدهما علينا بالآخر ، لأن من أدركهما ثم أعرض عنهما وأدركهما من بعد يجوّز أن يكون كل واحد منهما هو الآخر ، بأن نقل إلى موضعه ، ولم يلتبسا على الإدراك إلا لاشتراكهما في صفة تناولها الإدراك ، وقد بينا أن الإدراك إنما يتناول أخص صفات الذات ، وهو ما يرجع إليها ، وسندل على ذلك ، وإذا كان الجسمان مشتركين فيما يرجع إلى ذاتيهما فهما متماثلان ، لأن هذا هو المستفاد بالتماثل.
فإن قيل : دلّوا على أنهما لم يلتبسا إلا للاشتراك في صفة ، ثم بيّنوا أن تلك الصفة مما يتناوله الإدراك ، قلنا : الوجوه التي يقع فيها الالتباس معقولة ، وهي المجاورة أو الحلول ، كالتباس خضاب اللحية بالشعر من المجاورة ، وكما التبس على من ظن أن السواد الحالّ في الجسم صفة له من حيث الحلول ، وكذلك من اعتقد أن صفة المحل للحالّ ، حتى ذهب إلى أن للسواد حيّزا ، وكلا الأمرين منتف في التباس الجسمين ، لأنه لا حلول بينهما ولا مجاورة ، بل يقع الالتباس مع العلم بتغايرهما ، فدل ذلك على ما ذكرناه.