هذا المذهب عن العلة في مشاهدة القصّار (١) من بعد يضرب الثوب على الحجر ، ثم يسمع الصوت يتولد في الهواء ، والبعد المخصوص مانع من إدراكه ، فإذا تولد فيما يقرب أدرك في محله ، وإن لم يتصل بحاسة السمع ، والذي يدرك بعد مهلة هو غير الصوت الذي تولد عن الصكة الأولى ، لأن ذلك إنما لا يدرك لبعده ، قيل : فكذلك يدرك الصوت في جهة الريح أقوى لأنه يتولد فيها حالا بعد حال ، فيكون إلى إدراكه أقرب ، وإذا كانت الريح في خلاف جهة الصوت ضعف إدراكه وربما لم يدرك ، لأنه يتولد فيما يبعد عنه البعد المانع من إدراكه ، ولا يجوز البقاء على الأصوات ، أما من أثبت البقاء معنى ـ كالبغداديين من المعتزلة ـ فإنه يمتنع من بقاء جميع الأعراض ، لأن البقاء الذي هو عرض عنده لا يصح أن يحل العرض ـ وأما من لم يثبت البقاء معنى ـ وهو الصحيح ـ ويجوّز على بعض الأعراض البقاء ، ويقطع على بعض ، فإنه يعتل في المنع من بقاء الأصوات بأنها لو بقيت لاستمر إدراكنا لها مع السلامة وارتفاع الموانع ، ومعلوم خلاف ذلك ، ولو كان مدركا على الاستمرار لم يقع عنده فهم الخطاب ، لأن الكلمة كانت حروفها تدرك مجتمعة ، فلا يكون زيد أولى من يزد أو غير ذلك مما ينتظم من حروف زيد. ولو كان الكلام أيضا باقيا لكان لا ينتفى إلّا بفساد محله ، لأنه لا ضد له من غير نوعه ، ولا تقع الأصوات من فعل العباد إلا متولدة ، ويدلّك على ذلك أيضا تعذر إيجادها عليهم إلا بتوسط الاعتماد والمصاكّة ، ولأنها تقع بحسب ذلك ، فيجب أن تكون مما لا يقع إلا متولدا كالآلام.
والصوت يخرج مستطيلا ساذجا حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده ، فيسمى المقطع أينما عرض له حرفا ، وسنبين ذلك.
__________________
(١) المبيّض للثياب.