القتل حياة لهم ، وهذا معنى إذا عبر عنه بهذه الألفاظ اليسيرة في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) كان ذلك من أعلى طبقات الإيجاز ، وقد استحسن أيضا في هذا المعنى قولهم : القتل أنفى للقتل ، وبينه وبين لفظ القرآن تفاوت في البلاغة ، وذلك من وجوه : أحدها : أنه ليس كل قتل ينفي القتل ، وإنما القتل الذي ينفيه ما كان على وجه القصاص والعدل ، ففي ذكر القصاص بيان للمعنى وكشف للغرض. وثانيها : أن في قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩]. من إبانة الغرض المرغوب فيه بذكر الحياة ما ليس في قولهم : (القتل أنفى للقتل) وهذه زيادة في الإيضاح. وثالثها : أن نظير قولهم : القتل أنفى للقتل (الْقِصاصِ حَياةٌ ،) والقصاص حياة أوجز ، لأنه عشرة أحرف ، والقتل أنفى للقتل أربعة عشر حرفا ، ورابعها : في ـ القتل أنفى للقتل ـ تكريرا ، وليس في (الْقِصاصِ حَياةٌ) تكرير ، وقد قدّمنا أن تكرير الحروف عيب في الكلام ، على ما ذكرناه فيما مضى من هذا الكتاب.
ومن الإيجاز أيضا قوله تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) [سبأ : ٥١].
وقوله تبارك وتعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون : ٤].
وقوله تعالى : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) [يونس : ٢٣].
وأمثال هذا في القرآن كثير.
والقصد الإيجاز فيما وقع فيه حذف كثير ، حتى حذفت الأجوبة لدلالة الكلام عليها ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى) [الرعد : ٣١]. وكأنه يريد : لكان هذا القرآن ، ولم يقل ذلك ، وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) [الزمر : ٧١]. كأنه يريد : لما كان هذا كله حصلوا على النعيم