علينا حجة من غير أن يعتمدوا إلا على نفس الدعوى؟ فإن ذهب إلى أن قول سيبويه وأمثاله في هذا حجة ، واستطرف الإفصاح بخلافه ، قلنا : إن كان هذا لحسن الظن به فذلك أليق بالمتكلمين الذين هم أصحاب التحقيق والكشف عن أسرار المعلومات وغوامض الأشياء ، وعللهم هي الصحيحة المستمرة الجارية على منهج واضح وسبيل مستقيم ، وإنما غيرهم بالإضافة إليهم خابط عشواء ، وحاطب ليل ، فإن جاز الاعتصام بتقليد سيبويه كان الاعتصام بالدخول في شعب هؤلاء أحرى وأولى ، وإن قيل : إن اتباع النحويين في مثل هذا الباب أسوغ ، لأنهم أهل هذا الشأن ، وأرباب هذه الصناعة ، قلنا : إنما يجب اتباعهم فيما يحكونه عن العرب ويروونه وليس هذه المسألة من قبيله ، بل العرب مجمعون معنا على تسمية الكلام المفيد وغير المفيد بأنه كلام ، وليس يمكن جحد ذلك عنهم.
فأما طريقة التعليل فإن النظر إذا سلط على ما يعلل النحويون به لم يثبت منه إلا الفذّ الفرد ، بل ولا يثبت شيء البتة ، ولذلك كان المصيب منهم المحصّل من يقول : هكذا قالت العرب ، من غير زيادة على ذلك ، فربما اعتذر المعتذر لهم بأن عللهم إنما ذكروها وأوردوها لتصير صناعة ورياضة ، ويتدرب بها المتعلم ، ويقوى بتأملها المبتدىء ، فأما أن يكون ذلك جاريا على قانون التعليل الصحيح والقياس المستقيم ، فذلك بعيد لا يكاد يذهب اليه محصّل ، على أنه قد يمكن أن يقال : إن المتقدمين من أهل النحو تواضعوا في عرفهم على أن سموا الجمل المفيدة كلاما دون ما لم يفد ، لا أن ذلك على سبيل التحقيق ، كما أنهم سموا هذه الحوادث الواقعة ـ كضرب وقتل ـ أفعالا. ولو عدلنا إلى التحقيق ورفض عرفهم كانت أسماء لما وقع من الحوادث ، فأما تسليمه أن كل من نطق بكلمة واحدة يقال له : تكلم ، ولا يقال : قال كلاما ، واعتلاله بأن ـ كلاما ـ وقع إسما لمصدر ونائبا ، وذلك المصدر موضوع للتكثير فيجب أن يوفى حقه ، فمن طريف ما يعتمد عليه. وذلك أن التكثير موجود في لفظ ـ تكلم ـ وقد أجازه مع القلة ، فكيف لم يجز ذلك مع المصدر الذي ليس في لفظه التكثير ، وإنما هو نائب عن ذلك في لفظه ،