وجه تفضيل هؤلاء القوم على غيرهم
إن الخصال المحمودة توجد فيهم أكثر ، وفي غيرهم أقلّ ، وعلى هذا الحد يقع التمييز بين القبيلتين ، وأهل البلدين ، ومتى تأمل المنصف حال العرب علم ما ذكرته حقيقة.
أما الكرم فالأمر فيه واضح ، لأننا لم نجد أمة من الأمم ، ولا شعبا من الشعوب ، رأى قرى الضيف واجبا ، ومساواة الجار فريضة ، إلا هذه الأمة من العرب ، حتى صرّحوا بذلك في أشعارهم ، ودوّنوه في المأثور عنهم ، وتساوى فيه موسرهم ومعسرهم ، وغنيهم وفقيرهم ، هذا وهم في الأكثر أهل جدب وفاقة ، وضيق وعسر ، ونصب في انتجاع الرزق ، وكد التعرض للكسب ، ثم بلغ من حبهم الجود ، وصبابتهم إلى جميل الذكر ، أن سمحوا بنفوسهم ، ورأوا البخل بها مذموما ، كالبخل بأموالهم ، وكان من كعب بن مامة الإيادي في ذلك ما هو مشهور معروف ، لا تزيد الأيام ذكره إلا بقاء ، ولا يؤثر فيه بعد العهد إلا جدّة ووضوحا ، ولم نر في الهند والزنج والحبش والترك من ادّعى مثل هذه السجية ، ولا انتسب إلى هذه الخلة ، فأما الفرس والروم فالبخل عليهم غالب ، وحبّ الغنى مركز في طباعهم ، ليس عندهم في ذلك كبير عار ، ولا يلحقون أنفسهم به منقصة.
وأما الوفاء فمن دينهم الذي كانوا يرونه لازما ، ومذهبهم الذي كانوا يعتقدونه حتما ، حتى صار من تمسّك بجوارهم ، أو تعلق ببعض أطنابهم ، تبذل النفوس دونه ، وتراق الدماء في المنع منه ، فكم قتل الرجل منهم في ذلك أقرب الناس إليه نسبا ، وأمسّهم به رحما ، وكم من وقعة عظيمة ، وحرب جليلة طويلة ، جرّها ضيم نزيل ، أو التعرّض لسب جار ، كالحال في حرب البسوس التي ساقها ما علم من قتل كليب لناقة جارة جسّاس ، واستفحال ذلك وتماديه ، حتى شهدته الإجنّة شيبا ، فأما السموأل ورضاه بقتل إبنه دون الدروع التي كانت وديعة عنده ، وأبو دؤاد الإيادي في قود ولده بجاره ، فمما هو متداول لاخفاء بتقصير جميع الأمم عنه.