وأما البأس والنجدة ، وطاعة الغضب والحميّة ، وإدراك الثأر ، وطلب الأوتار ، فأخبارهم بذلك معروفة ، وسيرهم فيه بذلك متداولة ، ولا يخص به الرجل دون المرأة ، ولا الغلام دون الهمّ المسنّ ، بل يوجد عند نسائهم من الصبر والشجاعة والتحريض على الحرب والقساوة ما لا يساويه المذكورون بالنجدة في غيرهم ، والمنسوبون إلى البأس من سواهم ، كأسماء (١) ومن يجري مجراها ، ممن خبره مشهور معروف ، هذا وفي طباع النساء اللين ، وشيمتهن الضعف ، وإليهن تنسب رقة القلوب ، وعنهن يؤخذ انتكاس العزائم.
ثم هم أصحاب السّرى والتأويب ، وإليهم يعزى جوب القفار ، وقطع المهامه ، والحروب عادتهم ، والغارة صناعتهم ، وبصيرتهم بها ، وآراؤهم فيها ، تدلك على اهتمامهم بهذا الشأن ، وإرهاف أفكارهم فيه ، وشحذ خواطرهم لتدبيره ، ولا حجة فيما ذكرناه أبين ، ولا دليل عليه أوضح ، من اجتزائهم عن جميع المعايش غيره ، واقتصارهم من سائر المكاسب عليه ، إذ لم يرضوا شماسهم بذلة المهن ، ولا مرّنوا نخواتهم على معاناة الحرف ، لا يسأل أحدهم الرزق إلا غرار سيفه ، ولا يستنجد على نفي الضّيم إلا بسنان رمحه.
وأما العقول الصحيحة ، والأذهان الصافية ، فالأمر في تفضيلهم بها واضح ، وذلك أنهم لم يكونوا أهل تعليم ودرس ، ولا أصحاب كتب وصحف ، ولا يعرفون كيف التأديب والرياضة ، ولا يعلمون وجه اقتباس العلم والرواية ، وفي كلامهم من الحكم العجيبة ، والأمثال الغريبة والحث على محاسن الأخلاق ، والأمر بجميل الأفعال ، ما إذا تأملته غضّ عندك ما يروى عن حكماء اليونانيين ، وسهّل الأمر عليك فيما حكاه الناس عنهم ، ووجدت تلك الفصول اليسيرة ، والفقر القليلة ، تسند إلى جليل من الحكماء ، وتضاف إلى رئيس من العلماء ، وأمثالها وأضعافها في شعر راع جلف ، ومن كلام عبد غمر ، ينشئها طبعه بلا تثقيف ، ويسمح بها خاطره على غير صقال.
__________________
(١) يريد أسماء بنت أبي بكر في تحريضها لابنها عبد الله بن الزبير على حرب بني أمية.