ثم لما صار هؤلاء القوم إلى الدين ، وتمسكوا بالشريعة ، وعادوا أصحاب كتاب يدرس ، ومذهب يروى ، ظهر لعمري من دقيق أفهامهم وعجيب كلامهم ما هو موجود ، لا يخفى على أحد جالس العلماء وخالط الكتب ؛ سبقهم إليه ، ومعجزهم فيه ، وأنّهم فرعوا من المذاهب ، وولدوا من العلوم ، ما كأنّ من قبلهم كان ممنوعا منه ، ومصروفا عنه.
وأما حبّ الذكر ، وجميل الثناء ، والفرق من الذم ، وسوء القول ، فمما هو معلوم من عادتهم ، معروف من شيمتهم ، حتى كانوا إذا أسروا شاعرا شدّوا لسانه بنسعة ، خوفا من أن يسبقهم ببيت يشرد ، أو يعجلهم بقول يؤثر ، وقد قال أبو عثمان الجاحظ : لأمر ما قال حذيفة بن بدر لأخيه ، والرماح شوارع في صدره : إياك والكلام المأثور ، وقال : هذا مذهب فرعت فيه العرب جميع الأمم ، وهو مذهب جامع لأصناف الخير.
وأما الغيرة ، والأنفة ، والصبر ، والجلد ، فمعلوم منهم حتى نسبوا إلى الفظاظة ، وذكروا بالقساوة ، وعلل ذلك بإكثارهم أكل لحوم الإبل ، وإدمانهم التقوت بها ، وزعموا أن في طباعها قسوة القلوب ، ومن عادتها غلظ الأكباد. هذا ، وهم متى هبّ في أحدهم نسيم الصبابة ، ودبّت في مفاصله نشوة الهوى ، لانت تلك المعاطف ، ورقّت تلك الشمائل ، وعاد ذلك العزّ ذلا وفرقا ، وصارت تلك النخوة توسّلا وخضوعا ، لكنه مع العفاف من الريب ، والبعد من التهم ، والمساواة بين الباطن والظاهر ، والاتفاق بين الغائب والبادي ، وأشعارهم وأخبارهم بهذا كله مملوءة ، حتى كان هذا الحي من عذرة (١) قوما إذا نظروا عشقوا ، وإذا عشقوا ماتوا.
وأما مراعاة الأنساب وحفظها ، وذكر الأصول والبحث عنها ، فباب تفردت به العرب ، فلم يشاركها فيه مشارك ، ولا ماثلها فيه مماثل ، وفوائده في الإنتصار للعشيرة والحمية للأهل وغير ذلك معروفة ، ليس هذا موضع ذكرها ، وتقصي الكلام عليها.
__________________
(١) قبيلة اشتهرت بالحب العذري.