الحق سبحانه ، والمذموم ظاهرا ـ وهو قتل الغلام بغير حق ـ عائدا عليه. وفي إقامة الجدار كان خيرا محضا ، فنسبه للحق فقال : (فَأَرادَ رَبُّكَ) ، ثم بيّن أن الجميع من حيث العلم التوحيديّ من الحق ، بقوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) (الكهف : ٨٢).
وقال ابن عطية : إنما أفرد أولا في الإرادة لأنها لفظ غيب ، وتأدّب بأن لم يسند الإرادة فيها [إلاّ] (١) إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليهالسلام في قوله : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء : ٨٠) ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله [تعالى] ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومعابة (٢) ، وليس من جنس النعم المتقدمة.
وهذا النوع مطّرد في فصاحة القرآن كثيرا ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف : ٥)! وتقديم فعل الله في قوله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (التوبة : ١١٨) : وإنما قال الخضر في الثانية : (فَأَرَدْنا) ، لأنه قد أراده الله وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنّى التبديل لهما ؛ وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى لأنها أمر مستأنف في الزمن الطويل ، غيب من الغيوب ، فحسن إفراد [٢٦٠ / أ] هذا الموضع بذكر الله تعالى.
٤ ـ / ٦١ ومثله قول مؤمني الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (الجن : ١٠) ، فحذف الفاعل في إرادة الشر تأدبا مع الله ، وأضافوا إرادة الرشد إليه.
وقريب من هذا قوله تعالى حاكيا عن يوسف عليهالسلام ، في خطابه لمّا اجتمع أبوه وإخوته : (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) (يوسف : ١٠٠) ، ولم يقل : «من الجبّ» مع أن الخروج منه أعظم من الخروج من السجن.
وإنما آثر ذكر السجن لوجهين [ذكرهما ابن عطية] (٣) :
أحدهما : أنّ في ذكر الجبّ تجديد فعل إخوته ، وتقريعهم بذلك [وتقليع نفوسهم] (٤) ، وتجديد تلك الغوائل [وتخييب النفوس] (٤) والثاني : أنه خرج من الجبّ إلى الرق ، ومن السجن إلى الملك ، والنعمة هنا أوضح انتهى.
__________________
(١) ليست في المخطوطة.
(٢) في المخطوطة (معنى نقص ومصيبة).
(٣) ليست في المخطوطة.
(٤) ليست في المطبوعة.