لا تثير الرعب أو الاشمئزاز فى صدور العثمانيين ، بل إن تكرار مثل هذه العروض يغلظ مشاعر العثمانى ، وتجعله لا يستشعر عواطف الرحمة والعطف والشفقة. سمعت بدويا ، وربما كان من أصدقاء القتيلين ، عند ما كان يقف بالقرب من البدو ، وهو يتعجب قائلا : «يرحمهماالله ؛ ولكن لعل الله لا يرحم من قتلهما!».
كان الشارع الذى يمتد بطول وادى منى ، قد تحول إلى سوق ، وسوق شرقية ؛ كل بوصة من الأرض غير المبنية تحولت إلى مظلة أو حوانيت صغيرة ، بناها أصحابها من الحصير ، أو إلى خيام صغيرة ، جرى تجهيزها على شكل دكاكين. كانت هناك مؤن وتموينات ، وسلع من كل الأنواع ، جرى إحضارها من مكة إلى وادى منى ، وعلى العكس مما يجرى فى بعض البلاد الإسلامية ، التى تتوقف التجارة فيها فى أيام الأعياد ، نجد هنا التجار كلهم ، وأصحاب الدكاكين ، والوسطاء ، كلهم مشغولون فى عملية البيع والشراء. هؤلاء هم التجار الذين جاءوا مع القافلة السورية ، بدءوا مساوماتهم لشراء البضاعة الهندية ، وراحوا يعرضون عينات من السلع التى جلبوها معهم ، والتى كانت مخزنة فى مكة. هذا عدد آخر من الحجاج الفقراء ، يصيحون وهم ينادون على بضائهم الصغيرة ، وهم يحملونها على رءوسهم ويدورون بها فى الشوارع ، ونظرا لأن المعاملات المالية والتجارية كانت مقصورة على وادى منى ، فإن اختلاط الشعوب ، واختلاط العادات ، واختلاط السلع ، كان يعد مسألة واضحة وأكثر بروزا مما هى عليه فى مكة (*).
__________________
(*) هذا الحج عند العرب قبل الإسلام كان ، كما هو الحال فى كل الأزمان السابقة ، مرتبطا بسوق كبيرة كانت تعقد فى مكة. كانوا يزورون فى الشهور السابقة للحج بعض الأسواق المجاورة الأخرى ، وبخاصة سوق عكاظ ، أو بالأحرى سوق قبيلة كنانة ، وسوق المدينة وسوق ذو المجاز ، وأسواق قبيلة هذيل ، وأسواق الحسا ، أو بالأحرى أسواق بنى Beni لازد. وبعد أن يمضوا وقتهم فى التمتع فى تلك الأسواق يعودون إلى الحج فى عرفات ، ثم بعد ذلك يعودون إلى مكة ، التى كانت تنعقد فيها سوق كبيرة أخرى (راجع الأزرقى). أما فى عرفات وفى منى ، وعلى العكس من ذلك فقد كان أولئك العرب الوثنيون يمتنعون عن التجارة طوال أيام تجولهم فى هذين المكانين ، وأثناء أدائهم للطقوس المقدسة ، ولكن القرآن نهى عن ذلك ، وسمح فى آية من آيات السورة رقم ٢ بالاتجار حتى فى أيام الحج ، أو شىء من هذا القبيل. (راجع الفاسى)