المؤسفة كان لا بد لوباء مثل هذا أن يحدث في أية مدينة شرقية أخرى تأثيره المعروف الذي لا يمكن أن يحصل في المدن الأوربية ، في أيامنا هذه على الأقل ، بوجود قوة نظامية من الشرطة. فإن فائدة حجر الناس وعزل البيوت عن العدوى أصبحت حقيقة لا جدال فيها. إذ من النادر أن يصاب أحد من الأوربيين في استانبول أو غيرها حينما تتخذ مثل هذه الحيطة. ولو كان من الممكن إقناع الأهلين هنا باتخاذ تدابير وإجراءات مماثلة لكان من الميسور لتأثيرات هذا المرض المميتة ، وربما لمدة بقائه أيضا ، أن تتناقص على وجه التأكيد.
وقد تكلمت بإسهاب عن الطاعون في بغداد على الأخص ، لأن تأثيراته ازداد وقعها فيها أكثر من أي مكان آخر نظرا لما شاهدته بنفسي منها. غير أنه من النادر أن تجد مدينة من المدن الإيرانية لم يحصل فيها مثل ما حصل هنا ، باستثناء ما حصل من الغرق وفيضان المياه. فقد فقدت كرمنشاه وهمذان وكردستان كلها نسبة أكبر من سكانها ، وكذلك فعلت مازندران وأستراباد. كما هبط عدد النفوس في منطقة گيلان كلها إلى خمس العدد الأصلي ـ ويدّعي الأهلون أن هذا الهبوط في عدد النفوس وصل إلى حد العشر فيها وأقفرت رشت فخلت من سكانها بالكلية ، وكذلك فعلت لاهيجان وفومن وتيريگورام وما أشبه. تصوّروا هذا الاكتساح الرهيب للحياة البشرية ، وهذا المقدار الهائل من العذاب والمعاناة ، أنه يعزى في الدرجة الأولى إلى الجهل وسوء الإدارة! وفكروا بنعم المدينة وبركاتها ـ فبجهاز حكومي منتظم ، وإجراءات مستمدة من الإدراك والخبرة ، يمكن بعون الله وتقديره التخفيف من وطأة هذا الوباء المخيف وحدته ، إذا لم يمكن تحاشيه بالكلية.
أما بالنسبة لبغداد نفسها ، فقد فر الطاعون منها في الأخير أمام حرارة
__________________
ـ عداوه إلى الشمال كذلك ، فتفشى في كركوك وقضى على نحو من ألف نسمة فيها. وانتقل من هناك إلى السليمانية وما جاورها ، ويروى في هذا الشأن أن الوالي داود باشا طلب من طبيب المقيمية الإنكليزية في بغداد جلب الأدوية اللازمة لمكافحة الهيضة هذه فجيء بها متأخرة من الهند.