على أن هذه الإجراءات المتصفة بالعنف كان من شأنها أن تعزز صداقة صفوك وسليمان غنام لعلي. فحاصروا المدينة لمدة ثلاثة أشهر ، وصار مدفع الباشا الجديد الذي وصل إلى معسكره في هذه الأثناء يقصف المدينة من جميع الجهات. وأخيرا ، نفد صبر الأهلين وبادر شخص من التجار كان يدعى الحاج خليل إلى الاتصال بعلي الذي سمح لقواته في إحدى الليالي بالدخول إلى المدينة عن طريق الباب الجنوبية.
وفي أثناء هذه الإجراءات كلها كان داود المنكود الحظ ، وهو يعاني ما يعاني من تأثيرات الطاعون الذي أصيب به فنجا منه بأعجوبة ، بعد أن تخلى عنه جميع من بقي من أهله ورجاله وحتى نسائه عدا اثنتين منهن تمسكتا به إلى النهاية ـ يقبع مختفيا في دار رجل بغدادي يعرف بلقب قره بيبر (١) وكان قد فرّ ملتجئا إليها بعد أن تهدم قصره كما تمت الإشارة إليه من قبل. وقد كان قبل
__________________
ـ استفز همم البغداديين ، ولم يكن فيهم شيء ثابت سوى ترددهم. فقاموا بوجه الجائرين. وقد أشيع يومئذ أن قاسم باشا كان ينوي الاحتيال على رئيسه ليحكم بغداد بنفسه ... وعندما قرئ فرمان عزل داود باشا على الجميع طلب قاسم تنفيذ ذلك في الحال. غير أن مجلس الشورى. المؤلف من الضباط وأشراف البلد ، أصروا على تأجيل التنفيذ ... فخفوا إلى الاجتماع في دار صالح بك ، وجرى نقاش بينهم .. وتقرر وجوب تنحية قاسم.
وفي صباح اليوم الثالث عشر من حزيران ذهب قاسم إلى ديوانه وطلب إحضار داود ، فعاد من بعثوا لإحضاره خائبين. ثم سمعت جلبة وضوضاء في الخارج ، فكان ذلك أن قوة من المماليك والأهالي والعقيل قد أحاطت بالبناية وأصبح الحاكم الجديد أسيرا في حوزتها. وعند ما حاول أتباعه في الداخل ومريدوه في الخارج الدفاع والهجوم على المتجمهرين توسعت أعمال الفوضى وكثر إطلاق النار فسحبت المدافع من القلعة وسطا المتجمهرون على القنابل والذخيرة .. وبعد ظهر اليوم استسلم قاسم .. أما سليمان غنام الذي بقي مسيطرا على جناح من السراي حتى مغيب الشمس فقد سرق عند حلول الظلام جميع ما تمكن من حمله ، ثم أضرم النار في القاعة الكبرى وفر هاربا والسيف بيده مارا بالأزقة والشوارع الخالية».
(١) أي النيص الأسود بالتركية ، وهو محمد أغا من ملتزمي الاحتساب ، وزوج حبيبة خانم.