يكن هناك من يجرأ على الدخول إلى المحلة إلا أولئك الذين يستطيعون جعل «الأشقياء» المقيمين فيها يرحبون به. أما بالنسبة لنا نحن الذين كنا عبارة عن لفيف من الكفار فقد كان لا بد لنا أن نتقدم ضد قطيع من الثيران الهائجة لو أردنا أن نقوم بزيارتها هذه في ذلك العهد والزمن.
اما المستر ريچ (١) فالحقيقة أنه لم يقم بزيارة النقيب فقط بل سمح له أيضا بأن يدخل المقام ويزوره. لكن طريقه إلى ذلك كانت قد ذللت صعوباته بالهدايا الثمينة التي كان يقدمها إلى ذلك الرجل المرموق ، ولقد طمنا نحن بأنه لم يدخل إليه منذ ذلك الوقت سوى جماعة واحدة من الافرنج. لكن ذلك المشهد قد تبدل اليوم إلى حد كبير ـ فقد أتى الطاعون على جميع السكان الأوباش في هذه المحلة ، وأثر الغرق في كل بيت من بيوتها تقريبا عدا المرقد ، وملحقاتها المباشرة ، الذي ازدادت شهرته وقدسيته بمناعته هذه التي تعزى بلا شك إلى عمق الأسس التي يستند عليها ومتنانتها ـ إذ لم يبق من المحلة سوى جدران متهدمة وبضعة بيوت جديدة شيدت بعد النكبة. ولم يعد أحد من المدافعين الأشقياء الذين كانوا يدافعون عنها ، ولذلك تجدها اليوم مفتوحة لكل من يرغب في زيارتها.
وقد كنا الجماعة الثالثة التي أبدت رغبتها في مشاهدة المكان ، فطالب النقيب في بادىء الأمر بالهدايا التي أثبت لنا أنه قد تسلمها من المستر ريچ. على أنني حينما أخبرته بأننا لم نكن سوى سياح بسيطين لم نكن نعلم بأننا يجب أن ندفع مثل هذه الأجور الباهظة عن الزيارة ، برغم رغبتنا في إشباع حب الاستطلاع الذي يساورنا ، أجابنا بجواب لطيف ، فذهبنا إليه. وقد استقبلنا برقة المتفضل علينا في غرفة صغيرة حقيرة كانت جدرانها مبنية من الطابوق غير
__________________
(١) Claudius Rich المقيم البريطاني المشهور الذي شغل مقيمية بغداد في ١٨٠٨ ـ ١٨٢١ م وتجول في شمال العراق خلال مدة وجوده وزار بابل فكتب عن ذلك رحلته المشهورة. وقد انتهت أيامه ببغداد بالنزاع الذي نشب بينه وبين داود باشا في ١٨٢٠ ـ ١٨٢١ م.