إلّا أن يكون مقصودهم بيان أحد موارد لزوم البعثة وإرسال الرسل ، لا اختصاص مورد البعثة وإرسال الرسل بما إذا كان الاجتماع محققا ، وبمثل ذلك يوجه ما في الشفاء حيث اكتفى في إثبات النبوة بحفظ النوع الإنساني ، حيث قال : «فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه ، ونقول الآن : من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا ، يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته ، وأنه لا بد من أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الامر (الاخر) أيضا مكفيا به وبنظيره ، فيكون هذا مثلا يبقل لذلك ، وذاك يخبز لهذا ، وهذا مخيط للآخر ، والآخر يتخذ الإبرة لهذا ، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا ، ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات ـ إلى أن قال ـ : فإذا كان هذا ظاهرا ، فلا بد من وجود الإنسان وبقائه من مشاركة ، ولا يتم المشاركة إلّا بمعاملة ، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له ، ولا بد من المعاملة من سنة وعدل ، ولا بد للسنة والعدل من سانّ ومعدل ، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة ولا بد من أن يكون هذا إنسانا ، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك ، فيختلفون ويرى كل منهم ما له عدلا وما عليه ظلما ، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الناس ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقعير الأخمص من القدمين ، وأشياء اخرى من المنافع التي لا ضرر فيها في البقاء ، بل أكثر ما لها أنها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن ، كما سلف منا ذكره ، فلا يجوز أن يكون العناية الاولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي اسها» (١).
__________________
(١) الإلهيات من كتاب الشفاء : ص ٥٥٦ ، وص ٢٤٢ و ٤٤١ من طبع مصر.