والحال أنه من يرد الله اختباره في دينه ، فيظهر الاختبار كفره وضلالته ، فلن يقدر أحد على دفع ذلك عنه ، ولن تملك له أيها الرسول من الله شيئا يمنع ذلك ، ولن تستطيع هدايته وإرشاده إلى الحق.
فهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهر الاختبار مقدار فسادهم ؛ لأنهم يقبلون الكذب ، ويحرفون أحكام دينهم ، اتباعا لأهوائهم ، فلا تحزن عليهم ، ولا تطمع بعد هذا بإيمانهم.
أولئك الذين اختبرهم الله هذا الاختبار لم يرد الله بعدئذ تطهير قلوبهم من الكفر والنفاق ؛ لأن من دأب على الباطل ، وأمعن في السوء والشر ، لم يبق فيه أمل للخير ، ولم يعد له سبيل للنور ورؤية الحق.
وجزاء الفريقين من اليهود والمنافقين الخزي في الدنيا ، والعذاب العظيم الهول الشديد الوقع في الآخرة ، أما خزي المنافقين في الدنيا فهو افتضاح أمرهم وظهور كذبهم للنبي وخوفهم من القتل ، وأما خزي اليهود فهو أيضا فضيحتهم بظهور كذبهم في كتمان نص كتابهم في إيجاب الرجم على الزناة المحصنين.
ثم كرر تعالى وصفهم للتأكيد وتقرير المعنى ، وهو كثرة سماعهم للكذب ، وكثرة أكلهم للسحت ، أي المال الحرام من أخذ الرشوة ، واستباحة أجر البغي (الزانية) وعسب الفحل (أجرة ضرابه) وثمن الخمر والميتة وحلوان الكاهن ، والاستئجار في المعاصي ، كما روي عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد. ويرجع أصل ذلك إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ، ويعيّر به الإنسان (١).
ثم خيّر الله تعالى رسوله بالحكم بين اليهود والإعراض عن الحكم ، فقال فيما معناه : فإن جاؤوك متحاكمين إليك ، فأنت بالخيار بين الحكم أو القضاء بينهم ،
__________________
(١) تفسير الرازي : ١١ / ٢٣٥